سورة آل عمران - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي {أَؤُنَبّئُكُمْ} بهمزتين واختلفت الرواية عن نافع وأبي عمرو.
المسألة الثانية: ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون المعنى: هل أؤنبئكم بخير من ذلاكم، ثم يبتدأ فيقال: للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا والثاني: هل أؤنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا، ثم يبتدأ فيقال: عند ربهم جنّات تجري والثالث: هل أنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا عند ربهم، ثم يبتدى فيقال: جنّات تجري.
المسألة الثالثة: في وجه النظم وجوه:
الأول: أنه تعالى لما قال: {والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} [آل عمران: 14] بيّن في هذه الآية أن ذلك المآب، كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا، فقال: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} الثاني: أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى {والأخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] الثالث: كأنه تعالى نبّه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسناً منتظماً إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل، والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم، فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا.
المسألة الرابعة: إنما قلنا: إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا، لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة، ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية، وأيضاً فنعم الدنيا منقطعة لا محالة، ونعم الآخرة باقية لا محالة.
أما قوله تعالى: {لّلَّذِينَ اتقوا} فقد بينا في تفسير قوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أن التقوى ما هي وبالجملة، فإن الإنسان لا يكون متقياً إلا إذا كان آتياً بالواجبات، متحرزاً عن المحظورات، وقال بعض أصحابنا: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك، وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان، قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] وظاهر اللفظ أيضاً مطابق له، لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات، ومن الاتقاء عن بعض المحظورات، لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز، فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك، وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حمله عليه فكان قوله: {لّلَّذِينَ اتقوا} محمولاً على كل من اتقى الكفر بالله.
أما قوله تعالى: {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ} ففيه احتمالان الأول: أن يكون ذلك صفة للخير، والتقدير: هل أنبئكم بخير من ذلاكم عند ربهم للذين اتقوا والثاني: أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير: للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقياً عند الله تعالى، فيخرج عنه المنافق، ويدخل فيه من كان مؤمناً في علم الله.
وأما قوله: {جنات} فالتقدير: هو جنّات، وقرأ بعضهم {جنات} بالجر على البدل من خير، واعلم أن قوله: {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وصف لطيب الجنّة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر، وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب، كما قال تعالى: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71].
ثم قال: {خالدين فِيهَا} والمراد كون تلك النعم دائمة.
ثم قال: {وأزواج مُّطَهَّرَةٌ ورضوان مّنَ الله} وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة: {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن، ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب، فقال: {مُّطَهَّرَةٍ} ويدخل في ذلك: الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع، ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة، ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة.
ثم قال تعالى: {ورضوان مّنَ الله} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ عاصم {وَرِضْوَانٍ} بضم الراء، والباقون بكسرها، أما الضم فهو لغة قيس وتميم، وقال الفرّاء: يقال رضيت رضا ورضوانا، ومثل الراضون بالكسر الحرمان والقربان وبالضم الطغيان والرجحان والكفران والشكران.
المسألة الثانية: قال المتكلمون: الثواب له ركنان أحدهما: المنفعة، وهي التي ذكرناها، والثاني: التعظيم، وهو المراد بالرضوان، وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم، حامد لهم، مثن عليهم، أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع، وأما الحكماء فإنهم قالوا: الجنّات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية، والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية، وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته، ثم يصير في أول هذه المقامات راضياً عن الله تعالى، وفي آخرها مرضياً عند الله تعالى، والله الإشارة بقوله: {رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر: 28] ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ومساكن طَيّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ورضوان مّنَ الله أكْبَرُ ذلك هُوَ الفوز العظيم} [التوبة: 72].
ثم قال: {والله بَصِيرٌ بالعباد} أي عالم بمصالحهم، فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا.


{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في إعراب موضع {الذين يَقُولُونَ} وجوه:
الأول: أنه خفض صفة للذين اتقوا، وتقدير الآية: للذين اتقوا الذين يقولون، ويجوز أن يكون صفة للعباد، والتقدير: والله بصير بالعباد وأولئك هم المتقون الذين لهم عند ربهم جنّات هم الذين يقولون كذا وكذا والثاني: أن يكون نصباً على المدح والثالث: أن يكون رفعاً على التخصيص، والتقدير: هم الذين يقول كذا وكذا.
المسألة الثانية: إعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا} ثم إنهم قالوا بعد ذلك {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم، والثناء عليهم، فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله تعالى، فإن قالوا: الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} وأيضاً فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور، وتاب عن جميع الذنوب، كان إدخاله النار قبيحاً من الله عندهم، والقبيح هو الذي يلزم من فعله، إما الجهل، وإما الحاجة فهما محالان، ومستلزم المحال محال، فإدخال الله تعالى إياهم النار محال، وما كان محال الوقوع عقلاً كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثاً وقبيحاً، ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا وَتَوَفَّنَا مَع الأبرار} [آل عمران: 193].
فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله: {الصابرين والصادقين} [آل عمران: 17].
قلنا: تأويل هذه الآية ما ذكرناه، وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة، ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى، فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات.


{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: {الصابرين} قيل نصب على المدح بتقدير: أعني الصابرين، وقيل: الصابرين في موضع جر على البدل من الذين.
المسألة الثانية: إعلم أنه تعالى ذكر هاهنا صفات خمسة:
الصفة الأولى: كونهم صابرين، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات، وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى، كما قال: {الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} [البقرة: 156] قال سفيان بن عيينة في قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ} [السجدة: 24] إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر، ويروى أنه وقف رجل على الشبلي، فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال الصبر في الله تعالى، فقال لا، فقال: الصبر لله تعالى فقال لا فقال: الصبر مع الله تعالى، قال: لا. قال: فايش؟ قال: الصبر عن الله تعالى، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف.
وقد كثر مدح الله تعالى للصابرين، فقال: {والصابرين فِي البأساء والضراء وَحِينَ البأس} [البقرة: 177].
الصفة الثانية: كونهم صادقين، إعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنيّة، فالصدق في القول مشهور، وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه، يقال: صدق فلان في القتال وصدق في الحملة، ويقال في ضده: كذب في القتال، وكذب في الحملة، والصدق في النيّة إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل.
الصفة الثالثة: كونهم قانتين، وقد فسرناه في قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} [البقرة: 238] وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها.
الصفة الرابعة: كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر.
الصفة الخامسة: كونهم مستغفرين بالأسحار، والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت، واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلّى قبل ذلك فقوله: {والمستغفرين بالأسحار} يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه:
الأول: أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب والثاني: أن وقت السحر أطيب أوقات النوم، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبودية، كانت الطاعة أكمل والثالث: نقل عن ابن عباس {والمستغفرين بالأسحار} يريد المصلين صلاة الصبح.
المسألة الثالثة: قوله: {والصابرين والصادقين} أكمل من قوله: الذين يصبرون ويصدقون، لأن قوله: {الصابرين} يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم، وأنهم لا ينفكون عنها.
المسألة الرابعة: اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعاً من التكليف، والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها، ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعاً أُخر من الطاعات، وإما بسبب الشروع فيه، وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه، وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة، ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى، لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولاً ثم قال: {الصادقين} ثانياً، ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة، فقال: {والقانتين} فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات، ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة، وكان أعظم الطاعات قدراً أمران:
أحدهما: الخدمة بالمال، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام: «والشفقة على خلق الله» فذكر هنا بقوله: {والمنافقين}.
والثانية: الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله التعظيم لأمر الله فذكره هنا بقوله: {والمستغفرين بالأسحار}.
فإن قيل: فلم قدم هاهنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين، وأخر في قوله التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله.
قلنا: لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف، فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار، وقوله التعظيم لأمر الله في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى، فلا جرم كان الترتيب بالعكس.
المسألة الخامسة: هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد، فكان الواجب حذف واو العطف عنها كما في قوله: {هُوَ الله الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24] إلا أنه ذكر هاهنا واو العطف وأظن- والعلم عند الله- أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8